فن التعامل مع الموهوبين

فن التعامل مع الموهوبين

 

بقلم/ عمار القدسي – دكتوراه علوم حاسوب
 
صعد بلال رضي الله عنه على المئذنة ليرتفع الآذان في مكة ويعلن النصر المبين بعد الفتح بينما قعد نفر من شبان قريش في لعب ولهو يتضاحكون ويستهزءون ويحكون صوت المؤذن غيظاً، ورسول الله يسمعهم وهم لا يشعرون به..  يتخيل احدنا غضب رسول الله من الشبان ومعاقبتهم على فعلتهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بتلك الموهبة التي حباها الله للفتى- أبي محذورة-.. فللفتى صوت شجي.. كيف لهذه الموهبة أن تستثمر في الخير لا في الشر، في البناء لا في الهدم.. لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم من وراء ركام السخرية والاستهزاء في شخصية هذا الشاب تلك الموهبة الرائعة، فكان الحديث عن موهبته هو المفتاح الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفس هذا الشاب، فنقله من ذل المعصية إلى عز الطاعة، فقد دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته وصدره بيده وأمره أن يؤذن لأهل مكة، وهو ابن ست عشرة سنة، فكان مؤذنهم حتى مات.

 هذا هو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع من حوله، كان يقدر مواهبهم ويعرف نفسياتهم ويسبر نقاط قوتهم وضعفهم فينمي قدراتهم ويوجهها للبناء والخير، فنراه صلى الله عليه وسلم يصحب في سفره أبا بكر رضي الله عنه، ويسلم المئذنة لصاحب الصوت الحسن بلال، ويعطي راية الجهاد لخالد بن الوليد فهو سيف من سيوف الله له حنكة عسكرية ودراية في الحرب، ويوجه زيد بن ثابت لطلب العلم ودراسة اللغات، فهو يملك عقلا صافيا وذهنا متقدا، ويرشد ابن عباس الى الفقه والتأويل، ويعطي الراية لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه فهو الشجاع المقدام، ويوجه شعر حسان بن ثابت للمنافحة عن الحق فيقول له: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله"، ولا ينسى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيل الأصغر من الشباب فيسثمر قدرات اسامة بن زيد القيادية فيوليه أمر جيش رومة، ويرسل معاذ بن جبل معلما وقاضيا لما رأى فيه من علم بالحلال والحرام.

وهكذا نرى تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الموهوبين في تطوير مواهبهم وتنمية قدراتهم وتوجيههم التوجيه الأمثل، وهذا ما افتقده في كثير من الأحيان مجتمعنا المسلم، فنحن نرى تجاهل المواهب إن لم يكن قمعها أو استغلالها في الشر، فكم من موهبة قتلت في مهدها او اغتيلت وهي في طريقها للنجاح بقصد من المجتمع او بدون قصد.

إننا اليوم بحاجة إلى استراتيجية كاملة لتبني واحتواء الموهوبين، إن اردنا لمجتمعنا النهوض وامتلاك الأسبقية التى فقدنها.. ولنا في رسول الله القدوة الحسنة فقد اهتم صلى الله عليه وسلم برعاية المواهب، وجذبها إلى صفوف الإسلام، وكان يدعو الله سبحانه ان يعز الإسلام بأحد العمرين، ثم تراه ينقب عنها من خلال ما يسمى بـ "التفويض"، أي وضعهم على محكات الواقع لاكتشاف المواهب الدفينة، فاستثمار المواهب تبدأ باكتشافها، ثم نرى منه صلى الله عليه وسلم التسامح مع اخطاء الموهوبين والعمل على ارشادهم لتلافي الأخطاء كما في قصة حاطب رضي الله عنه.

كم نحن بحاجة اليوم الى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه في التعامل مع المواهب والقدرات، وكم يحزن القلب وهو يرى موهوبين دفنت مواهبهم وتعطلت قدراتهم وكأني بتلك المواهب تصرخ بالمجتمع إن لم تكن أهلا لاكتشافي وتنميتي فلا تكن سبيلا لإعاقتي و دفني...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق