رحلتي إلى جزيرة الأسود

رحلتي إلى جزيرة الأسود





استطلاع/ عصمت وحدين - ماجستير إدارة تقنية معلومات

بسم الله:
بدأت الحسناء الفاتنة المسمّاة سنغافورة مغازلتي منذ وقت مبكر جداً، تحديداً منذ اللحظة التي قررت فيها التقديم في جامعتنا الموقرة، حيث بدأتُ يومها في سؤال الأخ قوقل عن ذلك النتوء البارز من شبة جزيرة الملايو في عرض بحر الصين الجنوبي... والمسمى (جوهور باهرو)، لأكتشف أن جوهور هذه، ليس بينها وبين ست الحسن السنغافورية سوى جسر قصير، طوله أقل بكثير من خور المكلا الذي كنت أقطعه مشياً في حوالي عشرين دقيقة، فعقدت العزم يومها على طلب وصال ست الحسن ولو لساعات قليلة، بمجرد أن تُتاح لي الفرصة ، وقد هلّت تلك الفرصة المُنتظرة مع بداية السمستر المنصرم... والحمدلله.
إجراءات التأشيرة كانت غاية في البساطة، اتصال هاتفي بأحد (الفُرس)، وإيميل يحتوي صورتي وصورة جوازي، وتحويل مالي ويومين عمل... لا أقل ولا أكثر.
بعد تأخير وتطويل وتأجيل يعقبه تأجيل.. حانت لحظة اللقاء، خرجت ذات أحد من بيتي في معقل الجالية الهندية – بولاي يوتاما- حوالي التاسعة صباحاً، تأبطت شنطتي الصغيرة بعد أن حشوتها بلوازم يوم حافل... من سندوتشات وعصيرات وخلافه، وامتطيت صهوة حصاني الأبيض، وانطلقت ميمماً نحو مركز دار التعظيم، جي بي سنترال، لأربط الحصان هناك، وانطلق راجلاً إلى موقف الباصات... وهناك كانت المفاجأة السارة: سعر التذكرة من مملكة ماليزيا..إلى جمهورية سنغافورة.. كم تخيلوا؟ رنجت واحد وعشرة سنتات... سنت ينطح سنت.

سنتوزا...احتار دليلي:
من يقرأ عن سنغافورة يُدرك أن جزيرة سنتوزا هي طبقة الكريمة التي تزين الكعكة السنغافورية، لذلك، قررت أن تكون هي محطتي الأولى في طريق استكشاف سحر جزيرة الأسود.


 التجول بدءاً باستوديوهات (universal) وحديقة الملاهي العالمية التابعة لها، مروراً بالتلفريك الذي يمنحك رؤية عُلويّة شاملة للجزيرة ومفاتنها، والسينما رباعية الأبعاد وأماكن التزلج والقفز على الهواء وانتهاءاً بشاطئ البحر، وغيرها الكثير والكثير من أماكن الجذب السياحي، يترك المرء في حيرة حقيقية حول اختيار الموقع الذي يجذبك لدرجة قطع تذكرة الدخول، فغالبية ماذكرت -ومالم أذكر- يستحق التجربة، والأسعار نار، والميزانية محدودة، والوقت ضيق، ولايبقى لك عندها سوى (الدعممة) واختيار موقعين أو ثلاثة... والاستمتاع بكل جزء من الثانية... والعوض على الله.

بكم قارورة الماء:
بداية حاولت اتباع نصيحة من ذهبوا قبلي من أصدقاء بعدم (التوديف) وشراء أي شئ أثناء وجودك في سنغا، فالدولار السنغافوري (عفط) مقارنة بالرنجت، والدولار يساوي تقريباً 2,5 رنجت... (كيف إذا قارنّاه بالهيكل العظمي حقنا!!) ، والاسعار غالية، ولكني مع الحركة والجو الحار (بالمناسبة، الجو هناك أحرّ من جوهور، يبدوا أن الكثافة السكانية والعمرانية تؤثر)، أغرتني قارورة ماء بارد (مشبّرة) لمحتها عبر زجاج ثلاجة ثمانطعش (7/11)  أغرتني بتجاهل النصيحة الناصحة لأصدقائي، فأخذتها، وذهبت لأحاسب.. هاو ماتش؟جاء الرد: 2,60...
وات؟ واي؟ هاو؟ ليش يعني؟؟ جميعها أسألة استولت على عقلي وأنا أحاول الحصول على ناتج ضرب 2,60 في 2,50 (العملة الماليزية) ثم ضرب الناتج في 70 (سعر صرف عملتنا العظمية)، ولكني قبل الحصول على الناتج، قررت الغاء حصة الرياضيات، والدفع بالتي هي أحسن، ومحاولة التناسي والاستمتاع باللحظة، وترك مراجعة بنود الصرفيات والمديونيات إلى حين العودة إلى جوهور.
ملحوظة صحيّة هامّة: حرصاً على عدم إصابة الذاهبين في أي رحلة بالجفاف، أحب أن أطمأن الجميع، أن الأسعار المذكورة أعلاه هي أسعار جزيرة سنتوزا السياحية، في داخل البلد سعر قارورة الماء الصغيرة من 60 سنت إلى دولار واحد.

نصف أسد:
وأنت تتجول في سنتوزا، لن تخطئ عينك ذلك التمثال العملاق القابع في وسط الجزيرة، التمثال لكائن أسطوري نصفة العلوي، أو بالأحرى رأسه رأس أسد، وباقي جسمه جسم سمكة (أو عروس بحر) كما يقول البعض، يصل ارتفاعه لحوالي 37 متر وتم نصبه في مكان يسمح لزائر الجزيرة برؤيته من مواقع مختلفة من الجزيرة، إنه الميرليون (merlion)..
والميرليون هذا هو رمز سنغافورة وشعارها الرسمي، تجده في الأعلام والمباني والعملة، وفي كل مكان تذهب إليه في سنغافورة، وقد اختاره السنغافوريون مع الاستقلال ليكون رمزاً لهوية هذا البلد الذي ظل طوال تاريخه جزيرة مغمورة للصيادين تابعة لسلطنة جوهور، إلى أن أحتلته بريطانيا قبل حوالي مائتي عام، فرأس الأسد يعبر عن مسمى سنغافورة التي تعني بلغتهم القديمة (مدينة الأسد)، وجسم السمكة يعبر عن المهنة التاريخية لأهل البلد (صيد السمك)، هكذا، أوجد السنغافوريون لأنفسهم هوية ورمزاً، وأعطوه حقه من العناية و(الدعاية) ليترسخ في نفوس أبناء البلد كشعار يعبر عن وطن،حتى وإن كان رمزاً خرافياً، إنها الهوية ياسادة، وفي موضوع الهوية بالذات... ينبغي لنا نحن أصحاب الهويّات المؤصّلة و الحضارات السالفة والتاريخ الثري، أن نيمم أوجهنا –بمنتهى التواضع- شطر جنوب شرق آسيا علنا نتعلم من دولها وشعوبها شيئاً حول: كيف تبني هوية من لاشئ، وكيف يتشارك أصحاب الهويات، والأعراق، والثقافات المختلفة، في بناء وطن واحد.... للجميع



في شارع العرب:
رغم سعادتي بزيارة شارع العرب، الذي سمعت عنه الكثير كواحد من أشهر المواقع السياحية والأسواق التقليدية في سنغا، وزيارتي لمسجد سلطان التاريخي الشهير، أحد أهم المراكز الإسلامية في البلد، إلا أني لم أجد ما كنت أنتظره من أجواء تصاحب غالباً مثل تلك الشوارع في مدننا العربية... في شارع العرب السنغافوري لن تشدّك روائح المأكولات الشعبية التي تفوح من شوارع المكلا القديمة، ولن تحظى بالتنوع الخلاب للمنتجات المعروضة للبيع كالذي تجده في أسواق جدة الشعبية، كما لن تسبح بخيالك عبر الزمن وأنت تستنشق عبق التاريخ والحضارة كما تفعل عند تجولك في سوق الملح، وأيضاً... لن تطربك هنا أصوات الباعة وهم يروجون لسلعهم كما تفعل أصوات الباعة المصريين في العتبة وخان الخليلي...




في شارع عرب سنغافورة لن تجد سوى عدد من المحلات التي تعرض بضائعها بهدوء، مع حضور رمزي عربي يتمثل في بعض اللوحات الإعلانية والمطاعم (من بينها مطعم يمني اسمه زاك لم يكن به وقت مروري سوى شخصين يتناولان غدائهما في طاولة يتيمة) ولوحات جدارية في شارع جانبي تقع به إحدى بوابات المسجد اسمه شارع مسقط، والجداريات كلها تمثل صوراً من التراث العماني،وأخيراً... مقهى يقدم الشيشة و تنبعث منه أصوات مطرب مصري بأغنية شعبية رديئة..
 وإلى جانب هذا الحضور العربي ، فهناك حضور إيراني قوي يتمثل في المحلات التي تبيع المنتجات الإيرانية وأشهرها السجاد...
الأمر الذي ألقى ببعض ظلال من ضيق على هذه الزيارة هو عدد من المتسولين الذين تواجدو في محيط المسجد، وهو ما أثار لدي بعض التساؤلات حول وجود هذه الظاهرة في بلد يتمتع باقتصاد قوي ومستوى دخل مرتفع نسبياً... وهل ينحصر هذا التدني في المستوى المعيشي على المسلمين الملايو أم أنه يتوزع بالتساوي على باق مكونات المجتمع؟ والحقيقة أن الإجابة جائتني في زيارتي الثانية لسنغافورة عندما تجولت في أحياء أخرى لأرى بعض المتسولين الصينيين (من ذوي الاحتياجات الخاصة) يفترشون الأرض ويستجدون الإحسان من المارة بالعزف على آلة موسيقية أو بالغناء... فعلمت أن وراء الأكمة ماورائها، وأن ست الحسن الفاتنة، تخفي تحت ردائها وزينتها، بعضاً من تشوهات وقبح...

إم آر تي... منين يودّي على فين:
إذا أردت أن تحكم على تقدم بلد وتطوره فعليك بتجريب خدمة المواصلات العامة في ذلك البلد (أنا، 2013)
عزيزي زائر سنغافورة، أياً كان المكان الذي ستذهب إليه في سنغافورة فثق أن شبكة مترو أنفاق سنغا (MRT+LRT) ستوصلك إليه مباشرة، أو –في حالات نادرة- إلى مكان قريب منه...


طبعاً النظافة والتذاكر المقطوعة آلياً والسرعة جميعها موجودة هنا في ماليزيا، لكن الميزة الأكبر في رأيي هناك هي تغطية الشبكة لأغلب مناطق المدينة /الدولة، (خط شمال شرق، وخط شمال جنوب، وخط دائري، وخط غرب شرق...وغيرها) بحيث يستطيع الزائر الاستغناء عما سواها من مواصلات فيما يمثل 90% أو أكثر من تنقلاته و(مشاويره) وهو أمر لا أظن شبكة مترو العاصمة السيلانجورية، توفره...

الشئ الآخر المُلفت، هو توفر الخرائط المطبوعة مجاناً عند كل كاونتر في كل محطة، وأخيراً.... احذروا... السلالم المتحركة هناك أسرع من التي عندنا هنا.. لانريد أي إصابات

الصلاة بالحجز:
تُعد منطقة مارينا باي، وفندق مارينا باي ساند من أشهر معالم سنغافورة إلى درجة أن شكل الفندق المكون من ثلاث مباني ضخمة بسقف مشترك على شكل قارب، أصبحت رمز يعبّر عن سنغافورة، تماماً كما يرمز برج إيفل لفرنسا، والبرجين لماليزيا، والأهرام لمصر، وغصن القات لليمن...

 
من هنا كان لابد لي أن أتنقل من قطار إلى قطار، ومن خط MRT  إلى آخر حتى أصل من محطة (بوقيس) حيث شارع العرب، إلى مارينا باي ساندس حيث يقع المعلم المقصود، طبعاً المنطقة رائعة... منظر الفندق نفسه جميل، و منظر ناطحات السحاب المضيئة وهي تستعرض في وقار جمالها وهيبتها على الضفة الأخري من الخليج يجعلك تحتار إلى أي الجهتين تميل... لتبقى في حيرةً متململاً... تارة إلى هنا... وتارة إلى هناك... المهم، وانا في غمرة هذا التململ المستمتع، غربت شمس مدينة الأسود، وبدأ الظلام يستعد لأخذ نوبته الدوريه...تاركاً ضوء النهار يبحث عن بقعة أخرى من الأرض يضيؤها بنوره... حان وقت صلاة المغرب.. قلت لنفسي..
دخلت إلى استقبال الفندق... وهناك سألت موظفة الاستقبال... أريد أن أُصلّي.. هل من سوراو هنا؟ ردّت: نعم، هناك براير رووم في الطابق الثالث للفندق، ذهبت إلى السُلّم لأصعد إلى الدور الثالث... سألت موظفة الأمن: إلى أين؟  قلت: إلى المصلّى، ردّت: كان نوت.. لماذا؟ تساءلت... قالت: المصلى فقط لنزلاء الفندق!! حاولت بإلحاح، فرفضت بإصرار، لم يكن أمامي وقتها سوى الخروج من الفندق كليّة علّي أهتدي إلى مسجد أو مصلّى في مكان قريب... سألت المرور، وجاء الردّ: موسك؟!!  آي دونت ثنك سو..
هكذا إذاً ياسنغا!! منطقة سياحية يزورها السوّاح من مختلف البلدان، في بلد ذو جذور إسلامية لفترات طويلة من تاريخه، ولا تجد كمسلم مكاناً تسجد فيه لله؟!! هنا تراءت لي ماليزيا القريبة، وأحسست نحوها بحنين دافئ، تلك البلد التي تجد فيها أماكن الصلاة في كل تجمع، في كل مرفق، وفي كل شارع، ورددت بيني وبين نفسي، سلاماً يا بلد الإسلام..سلاما.


الختام:
بعد زيارة مول مصطفى الشهير في ليتل إنديا، والصلاة في مسجد أنغوليا المقابل، جلست قبيل الغروب، قريباً من محطة ليتل إنديا، أخرجت ما في جعبتي من سندوتشات أعدّها أهل بيتي صباحاً، وتأملت في هذا الخليط البشري المتزاحم أمامي، فإذا بي أرى بشراً من كل الأجناس والأعراق والديانات، تزاحموا في هذه البقعة الصغيرة من الأرض طلباً لحياة أفضل، وتأملت في حال هذا البلد، فوجدت بلداً كان، ذات زمان، إسلامياً بأغلبية ملاوية متدينة، ليصبح الآن بلداً منفتحاً-جدّاً-  ذو أغلبية صينية، تسود فيه أنماط معيشية وسلوكيات هي أقرب للغرب منها للشرق... فضلاً عن الإسلام... دين العفاف والحشمة.


وتأملت في حالي، طالب، مثقل بهموم الدراسة ومطالبها، يحاول اختلاس بضع ساعات من فراغه ووقته، ليتقمص دور سائح يجوب البلاد طلباً للمتعة البريئة والمعرفة، علّه يرى مايفيد، ليستفيد -مستقبلاً-مما رأى!
الحمدلله، أنهيت وجبة غذائي المتواضعة، نهضت واقفاً، رفعت وجهي لرب السماء ودعيت: اللهم أعطنا مثل ماعندهم من خير، وأكفنا مثل ماعندهم من شر، ولا تحرمنا خير ماعندهم بشر ماعندنا... يارب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق